*لم تكن المرة الأولى لتقفز "تونة الجبل" على مسرح الأحداث
منذ خمسين عاما .. اشتعلت بآثارها النار ولم تنطفئ على مدى شهور وشهور!
قالوا.. الجن .. أو لعنة الفراعنة
ذهبت إليها.. لأعود صحفيا من طراز مختلف
والفضل كل الفضل للراحل العظيم "موسى صبري"
مع أنها قرية صغيرة شأنها شأن 4000 من مثيلاتها تنتشر في أرجاء مصر.. إلا أنها خطفت الأضواء منذ الزمن البعيد لأن باطن أرضها يضم أغلى الكنوز.. وأعظم الثروات..!
نعم إنها ليست كنوز النفط .. أو الزيت.. ولا ثروات الغاز.. بل أكبر من ذلك بكثير..!
القرية التي أعنيها هي قرية تونة الجبل التابعة لمركز ملوي محافظة المنيا.. والكنوز والثروات التي أقصدها عبارة عن آثار مصر الخالدة التي ورثناها عن الأجداد العظام وإن كنا لم نقدر حتى الآن على الحفاظ عليها كما ينبغي أن يكون أو استثمارها الاستثمار الأمثل..!
منذ أيام.. فرضت "تونة الجبل" نفسها على الأحداث في مصر.. وسبب ذلك الاكتشاف الجديد الذي ضم العديد من المومياوات وكثير من الحيوانات المقدسة للإله تحوت مما حدا بوزير الآثار إلى أن يذهب بنفسه ليذيع الاكتشاف على العالم مؤكدا أنه بمثابة رسالة من الأجداد من أجل عودة السياحة.. واصفا تلك الآثار .. بأنها إحدى القوى الناعمة المؤثرة التي تتمتع بها مصر..!
***
قبل نحو خمسين عاما .. كان المصريون .. بل والدنيا كلها يتحدثون عن أسرار العالم الخفي داخل مقابر تونة الجبل بعد أن اشتعلت النيران في المومياوات والتوابيت ورقائق البرونز وطيور الأيبيس وفشلت كافة الجهود في إطفائها ..!
كالعادة.. أخذت الأقاويل والشائعات تتردد حول أسباب تلك الحرائق الغامضة.. مرة يقولون إنها لعنة الفراعنة .. وأخرى ينسبونها إلى الجن والعفاريت.. وثالثة يصر أصحابها على أن النائمين تحت التراب ضاقوا ذرعا من طول المدة.. فصبوا جام غضبهم على الأحياء ..!
***
المهم أنا شخصيا لي حكاية مثيرة مع تونة الجبل وحريقها الذي رفضت نيرانه أن تنطفئ على مدى شهور متصلة.
في عام 1969 .. كان الراحل الكبير موسى صبري يشغل منصب رئيس تحرير الجمهورية.. التي انتقل إليها من الأخبار بيته الأساسي .. وهو شبه مغضوب عليه من النظام في ذلك الوقت..!
.. وقد أراد موسى صبري أن يثبت لمن تصوروا أنهم يمكن أن يقلموا أظافره .. أن الصحفي.. صحفي ..والكاتب كاتب .. ورئيس التحرير.. رئيس التحرير.. بصرف النظر عن الموقع.. أو المكان..!
من هنا.. أشاع الرجل حراكا صحفيا في الجمهورية غير مسبوق من خلال الأفكار غير التقليدية .. والأبواب الجديدة.. والأخبار الانفرادية التي أخذت تحتل الصفحة الأولى وغيرها من الصفحات الداخلية بين كل يوم وآخر..!
***
المهم..وسط هذا المناخ المتقد والمشع حيوية جاء لي ذات يوم موسى صبري قائلا:
اذهب الآن إلى تونة الجبل لتغطية ما يجري هناك..!
سكت ولم أعلق لكنه لم يترك لي الفرصة :
نعم.. أنا أعرف أنك تغطي قطاعي الطيران والسياحة..لهذا اخترتك لتلك المهمة على اعتبار أن السياحة والطيران صنوان..!
بعد ساعات وصلت لمدينة المنيا ..ومنها توجهت على الفور إلى تونة الجبل.. ومعي أحد الزملاء المصورين .. وأعتقد أنه إما وليم مرقس أو إبراهيم عمر رحمهما الله .. فقد كان ثمة تعاون وثيق بيني وبينهما في العمل..!
أمضينا هناك أربعة أيام كاملة على أمل أن تنتهي الحرائق لنعود إلى "الجمهورية" وقد أنهينا وأكملنا مهمتنا .. لكن دون جدوى..!
ما أن وصلت إلى مقر الجمهورية.. حتى أبلغوني أن الأستاذ "موسى" لم يكف عن السؤال عني.. فتوجهت إلى مكتبه لأفاجأ به يطلب مني كتابة التحقيق وتسليمه إياه في التو واللحظة.
كانت الساعة وقتئذ .. حوالي العاشرة مساء.. وطبعا صدرت الطبعة الأولى .. والثانية في الطريق ولكنني أدركت فيما بعد أنه يريد الاطمئنان إلى "جودة الشغل" ثم ينشره في اليوم التالي..!
أذكر أنني سهرت حتى الصباح.. في كتابة التحقيق.. حتى جاءت المشكلة الأكبر من وجهة نظر "المعلم الكبير"..!
إنها كلام الصور..!
وهنا أعترف بأنني تعلمت في هذه الفترة.. أهم.. وأثمن وأرقى فنون الصحافة..!
قال لي.. أريد أن تجعل من الصور.. موضوعا مستقلا.. بمعني أن القارئ حينما يتوقف أمامها..يصرف النظر عن التفصيلات المكتوبة..وكأن المادة التحريرية غير موجودة..!
حاولت مرة واثنتين وثلاثا .. بينما هو مصر على أن إمكاناتي الصحفية تسمح لي بتحقيق ما تطويه ثنايا عقله..!
كل ذلك .. وهو "سهران" .. لم ينم.. شأنه شأني بالضبط.. وبعد جهد جهيد أعجبه "الشغل" ليهلل ضاحكا.. وسعيدا:
.. الآن.. أنت صحفي من طراز مختلف..!
أعترف بأني منذ ذلك اليوم.. ترسخت قدماي بالفعل في بلاط صاحبة الجلالة.. وحتى الآن حريص أبلغ الحرص على كتابة أو قراءة "كلام الصور" علما بأن كثيرا من الصحف للأسف لا تهتم به..!
***
.. وتمر سنوات .. ويعود موسى إلى دار أخبار اليوم رئيسا لتحرير الأخبار .. وأتولى أنا رئاسة تحرير هذه "الصحيفة".. العزيزة على قلبي"المساء" ليستقبلني الأستاذ بمقال من صفحتين في مجلة آخر ساعة بعنوان:
"الصاروخ الصحفي" وماذا تنتظر منه المساء..!
والحمد لله .. حققت ما كان يتمناه لي..وأصبحت المساء تحتل المكانة الجديرة بها بعد أن قفز توزيعها أضعافا .. مضاعفة..!
***
وألف مبروك لمصر على الاكتشاف الأثري الجديد في تونة الجبل ورحم الله "موسى صبري" الصحفي والكاتب .. ورئيس التحرير .. والمعلم الذي أدين له بالفضل طوال حياتي.
***