*البيت المتواضع الذي يتحول إلى مضيفة واسعة تضم الأهل والأحباب من القرية والمدينة في شم النسيم
*ذكريات أحلى سنوات العمر..
مصر تبقى دائما وأبدا.. غنية بثرواتها الناعمة التي يتوارثها أبناؤها جيلا بعد جيل
لم تختلف عادات المصريين كثيرا بالاحتفال بشم النسيم منذ عام 2700 قبل الميلاد وحتى الآن.
ولعل أهم ما يميز تلك الاحتفالات .. مشاركة الناس جميعا على اختلاف دياناتهم .. ومذاهبهم.. ومستوياتهم الاجتماعية والاقتصادية.
الخروج للحدائق والمتنزهات لم ينقطع على مدى هذا الزمن الطويل.. ونوعية الطعام هي نفسها منذ أن كان القدماء يعتقدون أن كل ما هو لونه أخضر ينير الطريق في الدنيا.. ويبقى ملازما لصاحبه بالحب.. والخير بعد الانتقال للعالم الآخر.
***
شاءت الظروف أن أعيش فترة الصبا.. وجزءا من مرحلة الشباب في مدينة ليست هي بمدينة أو قرية دون أن تحمل سمات القرية.. اسمها منشاة القناطر.. ذهبنا إليها في بداية الخمسينيات حيث مقر عمل الوالد وبالقرب منها كانت مدرستي الحبيبة التي أمضيت بها سنوات المرحلة الابتدائية وأربع سنوات من المرحلة الثانوية لأحصل على شهادة الثقافة وفقا لنظام التعليم في ذلك الوقت قبل أن أنتقل إلى مدرسة أخرى لأستكمل الدراسة وأنال شهادة التوجيهية التي تسمى الآن بالثانوية العامة.
***
المهم.. لقد كان بيتنا المتواضع في منشاة القناطر.. بمثابة مضيفة شاسعة الأرجاء يفد إليها يوم شم النسيم بالذات الأقارب والأحباب من كل حدب وصوب..!
الأعمام..وأولادهم.. يأتون من قرية شنشور حيث نشأ الوالد وتربى.. وهم محملون بخيرات الله من فطير مشلتت.. وبط.. وأوز.. ودجاج..فضلا عن كميات هائلة من الخس والبصل الأخضر والجرجير والملانة.. وغيرها من احتياجات شم النسيم..!
ومعهم يجتمع أهل الوالدة الذين يغادرون بدورهم حيهم الشعبي الشهير في باب الخلق ليصلوا عندنا نحو السابعة صباحا وبأيديهم لفافات الفسيخ والسردين.. التي ابتاعوها من أشهر محل في ذلك الوقت والذي يقع في قلب الميدان بالقرب من شارع الدرب الأحمر..
***
وهكذا .. يكتمل الجمع.. وتتلاقى المشاعر والأحاسيس في دفء وإخلاص.. وسط تأكيدات من الأصهار والأنساب بأنهم ينتظرون شم النسيم من العام للعام.. لكي يرى كل منهم الآخر في بيت الكرم وفي ضيافة العزيز" رجب" الذي هو والدي.
يبدأ اليوم بتناول الإفطار.. ثم سرعان ما يتحرك أهل القرية بصحبة أبناء المدينة إلى الحدائق التي لا تبعد كثيرا عن المنزل حيث لا تتعدى المسافة كيلو مترا واحدا..!
إحقاقا للحق.. لقد كانت حدائق القناطر في ذلك الوقت تبدو وكأنها الجنة بكل ما تحمله الكلمة من معنى..أشجار الورود والياسمين.. وبنت القنصل وزهرة اللوتس.. والأَرز.. وغيرها .. وغيرها.. والتي تطل على النيل الخالد الذي تنساب مياهه في عذوبة وإباء وكأنها تردد قول شاعر مصر المبدع أحمد شوقي:
من أي عهد في القرى تتدفق
وبأي كف في المدائن تغدق
ومن السماء نزلت أم فجرت
من عليا الجنان جداولا تترقرق
***
عند الظهر..تتحرك العائلة الكبيرة مرة أخرى من الحدائق إلى المنزل.. لتناول طعام الغداء حيث يلتف الكبار والصغار حول " الطبلية".. الكبيرة والتي تحتوي على كل ما هو شهي وطيب ولذيذ.. وبعد أن تمتلئ البطون وتسترخي الأجساد.. فإن ثمة إصرارا على استنشاق هواء مغيب الشمس فتتعانق الأيادي من جديد في رحلة ما بعد الغداء إلى الحدائق الغناء..!
***
في اليوم التالي لابد أن أذهب إلى المدرسة مخترقا نفس الحدائق.. لأجد نفسي وأنا أعقد مقارنة بين ما مضى .. وما هو قائم لأتبين الفرق الكبير وأتخيل ذات الأشجار وهي تشكو قسوة زائريها الذين تركوها وسط أكوام هائلة من القمامة بلا كلمة وداع واحدة ودون أدنى اعتراف بالجميل..!
وتنتهي الحصص السبع ليبدأ طريق العودة.. وتبلغ المفاجأة أقصى مداها عندما أشهد الحدائق وقد عادت نظيفة ممتعة مبتسمة..!
ليس هذا فحسب..بل تكاد الأشجار ترقص طربا على أغنية "سوق على مهلك سوق" التي تؤديها شادية مع كمال الشناوي داخل سيارة مكشوفة تجري بهما على ضفاف النيل.. وتقول شادية:
على إيه تجري كفاية علينا العمر بيجري من حوالينا..
ويرد عليها كمال: بكرة الورد اللي زرعناه يكبر طول ما إحنا بنرويه..
وللعلم.. لقد كانت حدائق القناطر الخيرية.. المكان المفضل لمخرجي أفلام الخمسينيات لتصوير مشاهدهم الخارجية.. مثل أفلام بشرة خير وبين قلبين.. وعش الغرام والدنيا حلوة.. وغيرها.. وغيرها..!
***
باختصار شديد.. يحسب لهذا البلد .. حرصه على التمسك بالعادات والتقاليد التي توارثها أبناؤه جيلا بعد جيل.. فضلا عن أننا جميعا دائما نتباهى بثرواتنا الغالية من الأسلحة الناعمة المتمثلة في الغناء والتمثيل.. والصحافة والإذاعة والتليفزيون..
ومن هنا..آثرت أن أقدم لك اليوم مقالا مختلفا بعيدا عن السياسة.. لأترك الذاكرة هي التي تتحدث بلا تزويق.. أو رتوش.. أو تعديل..!
..و..وكل شم نسيم وأنتم جميعا طيبون..
***